في السنوات الأخيرة، شهدت المملكة العربية السعودية تحولات اقتصادية غير مسبوقة، الرؤية التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان تجاوزت الطموحات التقليدية، واضعة الاقتصاد السعودي على طريق تنويع حقيقي يتجاوز النفط كمصدر وحيد للدخل. ومع هذا التحول، لم يعد من المنطقي أن تظل المحافظ الاستثمارية للمستثمرين الأثرياء محصورة في الأصول التقليدية من أسهم وسندات. البيئة الاستثمارية تتغير، والأسئلة التي ينبغي طرحها الآن لم تعد عن حجم العائد، بل عن نوعيته واستدامته ومدى توافقه مع اتجاهات الاقتصاد الجديدة.
في ظل التذبذبات التي تشهدها الأسواق المالية العالمية، وانخفاض العوائد على أدوات الدخل الثابت، تبدو البنية التحتية السعودية فرصة استثمارية واعدة للمستثمرين من ذوي الملاءة العالية. ليس لأن هذه المشاريع تحمل إمكانات نمو فحسب، بل لأنها تمثل حجر الأساس في التحول الحضاري والاقتصادي للمملكة. مشاريع مثل نيوم، ذا لاين، والربط السككي بين المدن الكبرى، ليست فقط مشاريع حكومية عملاقة، بل منصات حقيقية لإعادة تعريف مستقبل الاستثمار طويل الأمد في المنطقة.
ما يميز البنية التحتية كفئة استثمارية ليس فقط ارتباطها بعقود طويلة الأجل وعوائد مستقرة نسبياً، بل أيضاً ما تحظى به من دعم حكومي واسع، وتمويل متنوع، واهتمام متزايد من المؤسسات المالية الإقليمية والدولية. هنا لا نتحدث فقط عن بناء الطرق والمطارات، بل عن مراكز بيانات، شبكات طاقة متجددة، ومشاريع لوجستية ذكية، تُصمّم لتكون جزءاً من الاقتصاد الرقمي الأخضر الذي ترنو إليه المملكة. الأهم من كل ذلك، أن هذه المشاريع باتت تستوعب دخول المستثمر الخاص، عبر نماذج تمويل جديدة مثل الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وصناديق البنية التحتية المتخصصة، وأدوات الدين المرتبطة بالأصول.
للتوضيح بالأرقام، تشير التقديرات إلى أن المملكة العربية السعودية تحتاج إلى استثمارات تصل إلى حوالي 1 تريليون دولار في قطاع البنية التحتية على مدى السنوات العشر القادمة. كما أن إجمالي المشاريع العقارية والبنية التحتية الجارية ضمن رؤية 2030 يتجاوز 1.3 تريليون دولار. هذه الأرقام تعكس حجم الفرصة الهائل، وتؤكد أن المملكة تسير بخطى ثابتة نحو أن تصبح أكبر سوق للبناء في العالم بحلول عام 2028، مع مشاريع تبلغ قيمتها حوالي 181.5 مليار دولار لتنفيذ مستهدفات 2030 في قطاعات مختلفة كالإسكان والضيافة. تساهم هذه الاستثمارات في دعم نمو الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي، وفتح آفاق واسعة لقطاعات جديدة.
من يتابع حركة السوق السعودي يدرك أن أدوات الاستثمار التقليدية باتت تواجه منافسة حقيقية من هذه الأصول البديلة. صناديق مثل “جدوى” و”الإنماء للاستثمار” بدأت في فتح المجال أمام المستثمرين المؤهلين للدخول في مشاريع تنموية بعوائد تفوق ما هو متاح في سوق الأسهم، وبتقلبات أقل.
الأثرياء السعوديون، المعتادون تاريخيًا على استثمارات عقارية أو محافظ أسهم في السوق المحلية، بات عليهم أن يدرسوا تكوين محفظة هجينة، تجمع بين السيولة والعقارات والأسهم، ولكن مع نسبة استراتيجية مخصصة لأصول البنية التحتية المدعومة بمؤشرات نمو ورؤية واضحة.
لكن في المقابل، لا تخلو هذه الفرص من تحديات، البنية التحتية بطبيعتها أصول طويلة الأمد، تحتاج إلى فهم عميق للتدفقات النقدية، والإطار التنظيمي، والمخاطر التشغيلية.
كما أن التقييم قد يكون أكثر تعقيداً من شراء سهم في شركة مدرجة.. غير أن هذه العقبات لا يجب أن تكون مبررًا للجمود، بل حافزًا لبناء قدرات تحليلية جديدة لدى المستثمرين، أو الاستعانة بمديري أصول متخصصين في هذا المجال.
ما يحدث اليوم في المملكة هو انتقال من منطق الاستثمار في القيمة إلى الاستثمار في المستقبل. والبنية التحتية، بما تمثله من رهان استراتيجي طويل الأمد، ليست فقط فرصة لتحقيق عوائد مجزية، بل أداة للمساهمة في بناء اقتصاد جديد أكثر تنوعًا وشمولًا.
في وقت تتجه فيه الأسواق العالمية نحو اللامركزية وعدم اليقين، تبدو السعودية كمنطقة استثمارية واضحة الأفق، ومن يفهم تحولات الداخل السعودي، يدرك أن البنية التحتية لم تعد مجرد خدمة عامة، بل أصل مالي قابل للتداول، ووسيلة لتحقيق التوازن بين العائد والمخاطر في عالم ما بعد النفط.
